الكَاتِبَةُ : هِبَةُ أَحْمَدْ اَلْحُجَّاجِ
أَشْعُرُ بِالْحُزْنِ اَلشَّدِيدِ ، أَنَامُ بِكَثْرَةٍ ، وَأُرِيدُ أَنْ أَنَامْ أَكْثَرَ وَلَا أُرِيدُ اَلِاسْتِيقَاظَ أَبَدًا ، لَا طَاقَة لِي بِالتَّحَدُّثِ أَوْ بِالْقِيَامِ بِعَمَلٍ ، أَوْ اَلضَّحِكِ أَوْ أَيِّ أَمْرٍ آخَرَ ، أَشْعُرُ بِالْمَلَلِ وَرَغْبَةِ شَدِيدَةٍ فِي اَلْبُكَاءِ ، أَظُنُّ بِأَنَّ اَلْأَمْرَ صَعْبٌ جِدًّا .
أَحْتَاجُ إِلَى الهُدُوءِ وَعَدَمِ رُؤْيَةِ أَيِّ شَخْصٍ مَهْمَا كَانَ .
وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ أَيْقَظَنِي صَوْتُ رِسَالَةٍ إلكْتْرُونْيَّة ، كَانَ مَكْتُوبًا فِيهَا : ” اَلدُّنْيَا مَجْبُولَةٌ عَلَى اَلْكَدَرِ ، هَكَذَا خَلَقَهَا بَارِئُهَا ، وَجَعْلُهَا دَارَ مِحَنٍ وَابْتِلَاءَاتِ وَجِسْرِ عُبُورٍ لِلْآخِرَةِ ، لَمْ تَصِفُ حَتَّى لِلْأَنْبِيَاءِ خِيرَةِ اَلْخَلّقِ ، وَلَمْ تُعْطِ عَهْدَهَا لِصَغِيرٍ وَلَا لِكَبِيرٍ ، تُفْرِحُكَ يَوْمًا لِتُحْزِنِكَ أَيَّامٌ ؛ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ دَأْبُهَا أَبَدًا ، وَدَأَبَ اَلنَّاسُ فِيهَا :
طُبِعَتْ عَلَى كَدِرٍ وَأَنْتَ تُرِيدهَا . . . صَفَّوْا مِنْ اَلْأَقْذَاء وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّف اَلْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَّاعِهَا . . . مُتَطَلَّب فِي اَلْمَاءِ جَذْوَةَ نَارٍ
فَمِنْ مِنَّا لَمْ تَحْدُثْ عِنْدَهُ حَالَةٌ مِنْ اَلْحُزْنِ إِثْرَ مَا نَرَاهُ مِنْ اَلْبَلَايَا اَلَّتِي تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ ؟ وَمَنْ مِنَّا لَمْ تَعْزِفْ نَفْسَهُ عَنْ اَلدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لِمَا نَسْمَعُهُ أَوْ نَرَاهُ ؟ لَكِنْ حِينَمَا يَسْتَمِرُّ هَذَا اَلشُّعُورُ بِالْحُزْنِ وَالْوِحْدَةِ ، أَوْ اِعْتِلَالِ اَلْمَزَاجِ فَيَمْنَعُنَا مِنْ اِسْتِمْرَارِ اَلْحَيَاةِ بِشَكْلٍ طَبِيعِيٍّ ، أَوْ اَلْقِيَامِ بِمَا عَلَيْنَا مِنْ اَلْوَاجِبَاتِ ، أَوْ أَدَاءِ اَلْحُقُوقِ لِأَصْحَابِها ، أَوْ اَلْغَفْلَةِ عَنْ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْنَا ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا ، حِينُهَا يَنْتَقِلُ اَلْحُزْنُ مِنْ اَلْحَالِ اَلطَّبِيعِيِّ إِلَى حَالِ اَلضَّعْفِ وَالْمَرَضِ اَلَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ ! ! وَلَيْسَ أَعْظَمُ عِلَاجًا لِذَلِكَ مِنْ اَلصَّبْرِ وَالتَّقْوَى ، وَحُسْنُ اَلظَّنِّ بِاَللَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمَيْنِ ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ، وَتَفْوِيضِ اَلْأُمُورِ إِلَيْهِ ، وَحُسْنُ اَللُّجُئ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مُلِمَّةٍ .
أَقْفَلَتُ اَلْهَاتِفَ وَوَضَعَتُهُ جَانِبًا ، وَلَفَتَ مَسْمَعِي صَوْتُ تَسَاقُطِ اَلْأَمْطَارِ ، وَقَفّتُ عَلَى النَافِذَةِ وَقَلَّتُ فِي نَفْسِيٍّ : – لَمْ أَنْسَاكَ من اَلدُّعَاءِ فِي وَقْتِ اَلْجَفَافِ ، كَيْفَ لِي أَنْ أَنْسَاكَ وَقْتُ اَلْمَطَرِ ، وَأَخَذَتْ أَدَّعُو لأَبِيٍّ : – اَللَّهُمَّ فِي هَذَا اَلْمَطَرِ اِجْعَلْ أَبِي فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ اَلْجَنَّةِ رَبِّي أَكْرَمَهُ وَأَعْلَى شَأْنِهِ ، اَللَّهُمَّ اِسْتَجِبْ لِكُلِّ دُعَاءٍ اِدَّعَوْهُ لِأَبِي وَاجْعَلْ أَدْعِيَتِي تَصِلُ إِلَيْهِ عَلَى طَبَقِ مِنْ نُورٍ لِتُسْعِدِهُ وتَؤْنْسَهُوأَجَعَلْ لَهُ فِي كُلِّ قَطْرَةِ مَطَرِ رَاحَةٍ وَمَغْفِرَةِ وَجَمِيعِ اَلْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ اَلْوَاسِعَةِ يَا أَرْحَم اَلرَّاحِمِينَ يَا رَبُّ اَلْعَالَمَيْنِ . لَيْسَ هُنَاكَ أَصْعَبَ مِنْ مَشَاعِرِ اَلْفَقْدِ وَالْحُزْنِ اَلْمُصَاحِبَةِ لِفُقْدَانِ شَخْصٍ عَزِيزٍ ، لَا يَتَحَمَّلُ اَلْإِنْسَانُ فِرَاقَهُ سَوَاءٌ بِسَبَبِ اَلْوَفَاةِ أَوْ اَلْبُعْدِ اَلدَّائِمِ اَلَّذِي يَصِلُ حَدَّ اَلْفَقْدِ ، اَلْأَمْرُ اَلَّذِي يَتَعَامَلُ مَعَهُ كُلُّ شَخْصٍ حَسَبَ طَبِيعَةِ تَحَمُّلِهِ لِضُغُوطِ اَلْحَيَاةِ وَالْمَوَاقِفِ اَلصَّعْبَةِ اَلَّتِي تَمُرُّ عَلَى اَلْإِنْسَانِ.
فَهُنَاكَ مِنْ يَتَخَطَّى اَلْأَلَمُ اَلنَّفْسِيِّ بِالصَّبْرِ وَالْإِيمَانِ وَمُحَاوَلَةِ اَلتَّعَايُشِ مَعَ اَلْأَمْرِ اَلْوَاقِعِ ، وَهُنَاكَ مِنْ يَظَلُّ تَحْتَ تَأْثِيرِ اَلصَّدْمَةِ وَالإِنْكَارِ . . . ” أَتَسَاءَلُ كَيْفَ يُعَايِشُ اَلْفَقْدُ غَيْرُ اَلْمُسْلِمِ ؟ كَيْفَ يَسِيرُ فِي بَيْدَاءِ اَلْحَيَاةِ طَلَبًا لِلسَّلْوَى وَلَا يَبْلُغُ ؟ كَيْفَ شُعُورُهُ إِذْا رَأَى فِرَاقَ اَلْمَحْبُوبِ أَبْدَيًا ؟ وَكَيْفَ يُكْمِلُ حَيَاتَهُ دُونَ عَزَاءٍ لِنَفْسِهِ ؛ دُونِ سَحَابَةٍ تُظَلِّلُهُ وَتُمْطِرُ عَلَى قَلْبِهِ بِوَحْيِ اَللِّقَاءِ اَلسَّرْمَدِيِّ ، وَرَعْد يَحْكِي لَهُ بِدَوِيِّهِ : أنَّ هُنَالِكَ جَنَّةٌ ! ” فَأَنَا أُوَاسِي نَفْسِيٍّ دَائِمًا بِأَنَّ اَلْخِيرَةُ فِيمَا اِخْتَارَهُ اَللَّهُ ، وَإِنَّنِي مَأْجُورَةٌ عَلَى صَبْرِي وَتَحَمُّلِي ، وَعَلَى ظُرُوفِي اَلصَّعْبَةِ ، مَأْجُورةٌ عَلَى حُزْنِي وَقِلَّةِ حِيلَتِي ، وَمَأْجُورَةٌ عَلَى اَلرِّضَا فِي اَلْأَوْقَاتِ اَلصَّعْبَةِ . أُوَاسِي نَفْسِيٍّ دَائِمًا بِثِقَتِي فِي اَللَّهِ ، وَيَقِينِي بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُنَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ . ” فَمَعَ مُرُورِ اَلْوَقْتِ أَيْقَنْتُ لَا تَتَوَقَّفُ اَلْحَيَاةُ بِسَبَبِ اَلْفَقْدِ فَالْوَقْتُ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَمَا تَتَعَطَّلُ اَلسَّاعَةُ ! فَبَعْدَ عِدَّةِ شُهُورٍ مِنْ تَوَقُّفِ اَلْحَيَاةِ ، كَانَ يَجِبُ أَنْ أَعُودَ إِلَى اَلْحَيَاةِ مُجْبَرَةً وَلَسْتُ مُخَيَّرَةً ، فأَوَّلُ طَرِيقٍ لِلْعَوْدَةِ لِلْحَيَاةِ هُوَ طَرِيقُ اَلْعَمَلِ ، هُوَ اَلَّذِي يُسَاعِدُكَ عَلَى الاِنْغِرَاسِ فِي اَلْحَيَاةِ رُغْمًا عَنْكَ. وَعَلَى اَلرَّغْمِ مِنْ أنَهُ مازَالَ بِدَاخِلِي دَمْعَةٌ وَجُرْحٌ وَصَرْخَةٌ مَكْتُومَةٌ، مَا زَالَ اَلْأَلَمُ غَافِيًا وَبِكَلِمَةٍ يَصّحَى مِنْ نَوْمِهِ . هُدُوئِي اَلظَّاهِرُ خَادِعٌ ، وَلَكِنَّنِي اِرْتَدَيْتُ مَلَابِسِي وَوَقَفَتْ عَلَى بَابِ بَيْتِي وَأَخَذَتُ نَفَسًا عَمِيقًا وَقَلَّتْ : أَيَّتُهَا اَلْأَيَّامُ اَلْقَادِمَةِ مُرِي عَلَيْنَا بِسَلَامٍ فَقُلُوبنَا جِدًّا مُتْعَبَةً وَمُرْهِقَةً ، أَرْهَقَتْهَا اَلْحُظُوظُ وَأَتْعَبَتْهَا اَلتَّرَاكُمَاتُ اَلَّتِي نَالَتْ مِنْ سَفِينَةِ اَلْوِدِّ وَأَصْبَحَتْ أَرْوَاحُنَا تُعَانِي اَلْوَجَعَ ، وَوَجَعَ اَلرُّوحِ هُوَ أَنِينٌ لِقَلْبٍ صَامِتٍ يَمْنَعُهُ كِبْرِيَاءُ اَلْعَقْلِ عَنْ اَلْبَوْحِ بِآلَاف اَلْكَلِمَاتِ وَاَلَّتِي تَعْجِزُ اَلْجَوَارِحُ عَنْ اَلتَّعْبِيرِ عَنْهَا ، وَجَعُ اَلرُّوحِ يَتَمَثَّلُ فِي ضِحْكَةٍ دُونَ فَرَحٍ ، فِي حَدِيْثٍ دُونِ رَغْبَةٍ ، فِي بُكَاءِ قَلْبٍ دُونَ دُمُوعٍ ، إِنَّهُ اِخْتِلَاطُ اَلْمَشَاعِرِ بَيْنَ أَنِينٍ وَاشْتِيَاقٍ وَحَنِينٍ ! ! نَظَرَتُ إِلَى سَيَّارَتِي وَقُلْتُ : أَنَا لَسْتُ مُسْتَعِدَّةً لِذَلِكَ اَلْآنِ ، فَطَلَبَتُ سَيَّارَةَ أُجْرَةٍ.
وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَجَدَتُ مَجْمُوعَةً مِنْ اَلْفَتَيَاتِ اَلصَّغِيرات ، كُلٌ مِنْهُنَّ تَتَحَدَّثُ عَنْ أَبِيهَا ، كُنَّ يَجْلِسّنَ عَلَى رَصِيفِ اَلِانْتِظَارِ يَسْرُدُنَ لِبَعْضِهِنَّ اَلْبَعْضِ قِصَصَ آبَائِهِنّ . وَبَعْدٌ عَوْدَةِ آبَائِهِنّ تَعَانَقّنَ مَعَهُمْ ثُمَّ رَحَلُوا وَبَقِيَتْ طِفْلَةٌ وَحِيدَةٌ تَرْثِي حَالَ أَبِيهَا . اِقْتَرَبَتُ مِنْهَا وَنَظَرَتُ لَهَا ، قَالَتْ :أَبِي فِي اَلسَّمَاءِ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ اِحْتَضِنَهُ إِلَّا فِي اَلْحُلْمِ ، وَنَظَرَتْ إِلَي مُبْتَسِمَةً اِبْتِسَامَةً حَزِينَةً : أَبِي مَاتَ ، أَبِي كُنْتُ أَلْبَسُ حِذَائِهِ فَأَتَعَثَّرُ مِنْ كِبَرِ حِذَائِهِ لِصِغَرِ قَدَمِي ، أَلْبِسُ نَظَّارَتهُ فَأَشْعَرُ بِالْعَظَمَةِ . مِنْ اِنْتَظَرَنِي تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَاسْتَقْبَلَنِي بِفَرْحَتِهِ وَرَبَّانِيّ عَلَى حِسَابِ صِحَّتِهِ هُوَ اَلَّذِي سَيَبْقَى أَعْظَمَ حُبٍّ بِقَلْبِي لِلْأَبَدِ.
قُبْلَتُهَا عَلَى جَبِينِهَا وَقَلَّتْ لَهَا : بَعْدَ رَحِيلِ اَلْأَبِ تَأْتِي اَلْمَوَاقِفُ برِسَالَةٍ مُبَطَّنَةٍ مُحْتَوَاهَا : لَا مَجَال لِلضَّعْفِ ، فَقَدْ رَحَلَ اَلْأَعْمَقُ حُبًّا وَالْأَصْدَقُ قَوْلاً وَالْأَكْثَرُ خَوْفًا وَحِرْصًا.
اَلْأَبُ هُوَ اَلسِّنْدُ ، هُوَ مِنْ تَمِيلِين بِرَأْسِكِ عَلَى صَدْرِهِ فَيَعْتَدِل لَكِ كُلُّ مَائِلٍ .ثُمَّ ذَهَبَتْ ، وَرَكِّبْتُ اَلسَّيَّارَةَ وَنَظَرّتُ مِنْ خِلَالِ اَلشُّبَاكِ وَسَرَّحَتُ وَقَلَّتْ : كُلَّمَا مَاتَ أَبٌ بَكَيْتُ عَلَى أَبِي مِنْ يُخْبِرُ اَلرَّاحِلِينَ أَنَّ قُلُوبَنَا فِي أَكْفَانِهِمْ ؟ فِقْدَانُ الأب هُوَ إِحْسَاسٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ ذَاقَ طَعْمُهُ . اِسْتَغَلُّوا وُجُودُ آبَائِكُمْ بِجَانِبِكُمْ ، فَفُقْدَانُهُمْ أَصْعَب مِمَّا يَخْطُرُ عَلَى أَذْهَانِكُمْ ، رَحِمَ اَللَّهُ أَبِيٍّ .
وَعِنْدَمَا وَصَلَتْ مَكَان عَمَلِيٍّ ، وَدَخَلَتْ اَلْقَاعَةُ ، كَتَبْتُ سُؤَالًا بِالْخَطِّ اَلْعَرِيضِ ” مَنْ هُوَ اَلْأَبُ ؟ ”
أَحَدُ اَلطَّلَبَةِ قَالَ : اَلْأَبُ هُوَ اَلرَّجُلُ اَلْوَحِيدُ اَلَّذِي يَأْخُذُ مِنْ نَفْسِهِ لِيُعْطِيَكَ ، قَدْ لَايْكُونْ أَعْطَاكَ كُلُّ مَا تَتَمَنَّى وَلَكِنَّ تَأَكَّدَ أَنَّهُ أَعْطَاكَ كُلُّ مَايْمِلَكْ .
اَلْأَبُ هُوَ اَلْوَحِيدُ اَلَّذِي لَا يَحْسُدُ اِبْنُهُ عَلَى مَوْهِبَتِهِ ، اَلْأَبُ هُوَ اَلْحُضْنُ اَلْآمِنُ لِابْنَتِهِ ، حُبُّ اَلْأَبِ حُبَّ لَنْ يَتَكَرَّرَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجِدَهُ عِنْدَ أَحَدٍ ، حِفْظُ اَللَّهِ مِنْ بَقِيَ وَرَحِمَ مِنْ رَحَلَ .
وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ : أَكْتَرِ وَاحِدَ بِيجِيبْ فُلُوسٍ هُوَ اَلْأَبُ ، أَقَلَّ وَاحِدٍ فِي اَلْمَصَارِيفِ هُوَ اَلْأَبُ ، أَكْتَرِ وَاحِد يَبْذُلُ مَجْهُودَ لِلْعَائِلَةِ هُوَ اَلْأَبُ، أَكْتَرَ وَاحِد مَضْغُوط نَفْسِيًّا مِنْ اَلشُّغْلِ هُوَ اَلْأَبُ ، اكْتَرَ وَاحِد يُضَحِّي وَيُحِبُّ اَلْعَائِلَةَ وَيُفَضِّلُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ اَلْأَبُ ، وَلَكِنْ بِكُلِّ أَسَفِ لا احد يعرف قِيمَتِهِ ، فَرَحِمَ اَللَّهُ كُلَّ أَبٍ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُدْرِكْ أَبْنَائِهِ مَا قَدَّمَهُ وَحِفْظُ اَللَّهِ مِنْ بَقِيَ.
وَ أحَدُ اَلطَّلَبَةِ أَضْحَكَنِي صِدْقًا عِنْدَمَا قَالَ : اَلْأَبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوْلَادِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بعبع ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْبَنَات هُوَ أَحَنّ رَاجِلٌ فِي اَلدُّنْيَا ، وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَضْحَكُ عَلَى هَذِهِ اَلْإِجَابَةِ ، سُمِعَتْ صَوْتَ أَحَدٍ مِنْ اَلطَّلَبَةِ يقُول: وَأَنْتِ أُسْتَاذَتي مَا هُوَ اَلْأَبُ بِالنِّسْبَةِ لَكَ؟
هُوَ سَأَلَ وَالْجَمِيعِ نَظَرَ إِلَي . . . فَكَانَتْ إِجَابَتِي : أبي رَجُلٌ صَالِحٍ ، حَقُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِهِ ، لَمْ يَعِشْ يَوْمًا وَاحِدًا يُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ ، أَفْنَى رُوحَهُ فِي إِسْعَادِ كُلٍّ مِنْ حَوْلِهِ ، لَمْ أَرَ إِنْسَانًا رَاضِيًا كَأَبِي ، لَمْ أُعَاشِرْ قَلْبًا مُتَسَامِحًا وَحَنُونًا كَقَلْبِهِ وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَهُ يَمْلِكُ كُلُّ هَذَا اَلْقَدْرَ مِنْ اَلرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ بِقَضَاءِ اَللَّهِ ، اَللَّهُ يُحِبُّ أَبِي وَيُحِبُّنِي لِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَبْيَ . ” إِلَى أَوَّلِ رَجُلٍ أَحَبَّنِي . . . وَاخْتَارَ لِي اِسْمِي . . . وَأَعْطَانِي اِسْمُهُ لِيُبْقِيَ مَعِي حَتَّى مَوْتِي . . . رَحِمَ اَللَّهُ وَجْهَكَ اَلَّذِي كَانَ يَحْمِلُ طُمَأْنِينَةَ اَلْعَالَمِ ، اَللَّهُمَّ بَلَغَ أَبِي حُبِّي وَسَلَامِي وَدُعَائِي . فَمًا اِشْتِيَاقَ اَلْحَيِّ لِلْحَيِّ إِلَّا اَللِّقَاءُ وَلَكِنْ مَاذَا عَنْ اِشْتِيَاقِ اَلْحَيِّ لَمِنْ أَخْفَاهُ اَلثَّرَى ؟
فَالْعَجْزُ أَنَّ تُطِيلُ اَلنَّظَرَ فِي صُورَةٍ لِمَيِّتِ وَتَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهُ بِاسْتِطَاعَتِكَ اِحْتِضَانَهُ وَتَقْبِيلُ جَبِينِهِ .
حِينُ مَاتَ وَالِدِي ، عَرَفَتْ أَنَّ اَلْأَمَانَ فِي قَلْبِ عَائِلَةٍ كَامِلَةٍ . . . هُوَ شَخْصٌ . اَلْحَيَاةُ دُونَ أَبٍ تُشْبِهُ اَلْوُقُوفَ طِيلَةِ اَلْعُمْرِ فِي مُنْتَصَفِ غُرْفَةٍ لَا يَسْمَحُ لَكَ بِالِاسْتِنَادِ عَلَى شَيْءٍ .
ثَقِيلَةٍ اَلْحَيَاةِ بِدُونِ ” أَبِ ” مَهْمَا كَانَ اَلْإِنْسَانُ يَتَظَاهَرُ بِالْقُوَّةِ ، مَوْتَ اَلْأَبِ أَلَم مُمِيتٍ ، مِنْ مَاتَ أَبُوهُ فَقَدَ سَنَدُهُ وَإِنْ بَلَغَ ما بَلَغَ ، وَتَشْتَدُّ مَرَارَةُ اَلْفَقْدِ فِي لَحَظَاتِ اَلضَّعْفِ ، حِينُ تَمُرُّ بِكَ اَللَّحْظَةُ اَلَّتِي تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى أَبٍ يُسْنَدكَ وَتَسْتَمِدّ مِنْهُ قُوَّتُكَ و ثَبَاتُكَ وَصَبْرُكَ ، وَيَبْقَى يُشْعِركَ أَنَّهُ اَلْمَسْؤُولُ وَأَنَّكَ فِي مَأْمَنِ مَعَهُ ، فَإِنَّ فَقْدَ اَلْأَبِ حُزْن يَتَوَارَى وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطَفِئُ ، وَمَا اَلْفَقْدُ إِلَّا بَتْرٌ فِي اَلرُّوحِ لَا يَلْتَئِمُ أَبَدًا . اَللَّهُمَّ اَلْفِرْدَوْس اَلْأَعْلَى لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَذُرِّيَّاتِنَا