كَبرها بتِكبر وصِغرها بتصّغر
هبة أحمد الحجاج
عِندما تُغادرُ مَكان عملكَ ، تَشعرُ وكأنّ جميعَ المتاعبِ تقفُ على كَتفيك ، وكأنكَ تحملُ جبلًا عليهِما ، والسَببُ أنّ يومكَ في العملِ كانَ مُتعبًا بين كدٍ وجُهد ، وأخذٍ ورَد، وبينَ هذا وذاك ، ولا تقمْ بكذا ، والأفضلُ كذا ، وهكذا يمرُ يومكَ وأنتَ تَقضي ثماني ساعاتٍ منَ العملِ المُتواصلِ ممزوجةً بالتعبِ والكدِ والمَشقة، ولكنْ انتبه إذا أردتَ أن تَسقُط التُفاحة هُز الشجرة.
فالعملُ يُبعدُ عنّا ثلاثُ آفاتٍ خَطيرة: الضجرُ، ونزعةُ الشر، والعوز.
العملُ ليسَ عقاباً، بلْ مُكافأةً وقوةً ومُتعة.
وبما أنني شخصٌ فعالٌ في المجتمعِ و الدليلِ ما يرتسمُ على ملامحي من تعبٍ وجهدٍ وأيضاً نُعاس ههههههه ، فقدْ كنتُ على مدى الطريقِ أفكرُ فقط في قَيلولة ، وعندما أصلُ سأرمي بكلِ جَسدي على سَريري وكأنني قلتُ للعالمِ وداعاً وسَنلتقي في وقتٍ لاحق، وإذ وأنا منغمسٌ في نَومي العميقِ بعدَ هذا اليوم المُتعب، وإذ صوتُ كرةِ قدمٍ يضربُ نافذةَ غُرفتي، فاستيقظُ وافتحُ عيني وأسمعُ أصواتَ الأطفالِ ممزوجةً بالضحكِ والمُزاح مع الاعتِذار ، وقفتُ على النافذةِ ونظرتُ إليهم كيفَ يضحكونَ ويلهونَ هُنا وهُناك مبتسمًا لهُم وقلتُ في نَفسي “ليتَ تلكَ الأيامُ تعودُ حاملةً بينَ طَياتِها الكثيرُ من الذِكريات، عِندما كبرتُ اكتشفتُ أنّ هذهِ الحَياة ما هي إلا سَراب، نعم سرابٌ لأنكَ كُلما كبرتَ تكبرُ معكَ هُمومكَ وأحزانك، عُودي يا طُفولتي الجَميلة واحمِليني، وأحِيلي الصّحراء في الحبِ حقلاً، ليتكِ تَعودين” .
وبعدَ استِعادتي لهذهِ الذكرياتِ الجَمليةِ قررتُ أن أذهبَ إلى الحديقةِ لأنني من الصعبِ جداً أن أعودَ إلى النومِ مرةً أُخرى، وما زالَ هُناك مُتسعٌ منَ الوقتِ حتى أرى غروبَ الشمسِ الجَميل.
سارعتُ في الذهابِ وأنا أركبُ سَيارتي، وإذ أسمعُ هؤلاءِ الأطفالِ يُغنون ” كبرها كبرها كبرها بتكبر صغرها صغرها بتصغر
و قبلك قالوا بالأمثال بسبس للدنيا يا خال بس، بس، بس
بسيطة بسيطة بسيطة
لو إنك تبرم هالأرض و تحمل هالسلم بالعرض
و تجعل من همك وسواس
و تضرب أخماس بأسداس
و تقضي يومك بالتفكير
اللي صاير بدو يصير”.
نظرتُ لهم وقلتُ ” صَدقتم ، حِكمْ، حِكم ” فضَحكنا جَميعاً .
وعندما وصلتُ إلى الحديقةَ، جلستُ ونظرتُ إلى الناسِ وتذكرتُ قولَ أُمي” كل واحد همه على قده” فأصبحتُ أتخيلُ كلَ شخصٍ أراهُ يوجدُ فوقَ رأسهِ كالغيمةِ تُخبرنا عن مُشكلته ، كانَ أول شَخص وضعتُ على رأسهِ الغَيمة ، شابٌ صغيرٌ في السنِ قويُ البدنِ تظهرُ عليهِ ملامحُ الضجرِ والبؤسِ واليأس، وأخذَ صوتهُ يَعلو ويَعلو ويَقول ” هو يتوظفُ بالشركةِ الفُلانية ونحنُ لا ، هو يكونُ كذا ونحنُ لا، وهو وهو ونحنُ ونَحن” ، والكثيرُ منَ العباراتِ المُحبطة، والتي تدلُ على سوءِ حَظهم ، صِدقاً جَعلني أشعرُ هذا الشّاب أن هُناك طامةٌ كُبرى في حَياتهِ وحلتْ عَليه ، نظرتُ إلى صديقهِ الذي حصلَ معهُ تماماً كما حصلَ مع الشابِ المُتذمر ، صديقهُ كانَ عكسهُ تَماماً في كلِ شَيء، وأشّعرني للحظة ” أينَ المُشكلة؟ لا يُوجد مُشكلة” ، كانَ يقُول ” الخيرةُ فيما اختارهُ الله ، أنا مُتفائل، سوفَ أحصلُ على وظيفةٍ بشركةٍ أفضلَ من تلكَ وسترى ، ما بِك؟ ألا تتذكرُ قولَ كلير أوستن (انظرْ إلى الحياةِ بتفاؤل، التذمرُ و الشَكوى من المشاكلِ التي تعترضُ طَريقنا يستهلكُ تَفكيرنا و وقتنا دُون طَائل) “.
نظرتُ إلى الشقِ الآخرِ فرأيتُ إمرأةً وزَوجها، وكَانا طاعنين في السن ، كانَ الرجلُ مُنزعجٌ، بدتْ عليهِ ملامحُ الغضبِ وهُو يُمسكُ بيدهِ ورقةً وكأنها ورقةُ فُحوصاتٍ مِخبرية كانَ يقولُ وهو مُتذمر : لدي مرضُ كذا وكذا ، أشعرُ أنّني لا أستطيعُ الحِراك، أشعرُ أني سوفَ أموت؛ بلْ أقصدُ اقتربَ مَوتي .
نَظرتْ إليهِ زوجتهُ المُسنة وضَحكتْ ضِحكةً جَميلة، وقالت لهُ : مش عارفه مين بده يواسي مين ، يا رجل لدي أربعةُ أمراضٍ مزمنة ، ولا أشعرُ أني مريضة ولا أستطيعُ الحِراك، ولا أشعرُ أنني سَأموت، على العكسِ لا أُخفيك أشعرُ بالتعب والوجعُ بعضَ الشيء؛ لكن عِندما أتناولُ الأدويةَ أتحَسن، ويزولُ المرضُ و أحبُ الحياةَ وسأعيشُها بأمراضٍ أو بدونِ أمراض ، أتعلمُ تذكرتُ برنامجًا تلفزيوني كنتُ أتابعهُ، وذكرتْ المُذيعة مَقولةً لشخصٍ ما يُدعى ألبرت أينشتاين كان فيلسوفًا أو عالمًا لستُ أدري أعجبتني مَقولتهُ (ليسَ الأمرُ أني عبقري ، كلُ ما هنالكَ أني أكافحُ مع المشاكلِ لفترةٍ أطول) “. نظرَ إليهَا وابتسمَ وقالَ لها ” معكِ يحّلو المرضُ ههههه”.
وأنا أنظرُ إليهما وأقولُ” ما أجّملهُما “، وإذ أسمعُ أصوات أطفال يغنون بأعلى الأصوات، كانوا يردِدُون كأنهم يُسمعون العالم بأسره، كانت كلماتهم تعطي الأمل والقوة، كانوا يرددون :
” ارمي ورا ضهرك الجراح
و لا تندم على اللي راح
و لا تقضي يومك مهموم
و بتفكر في أمر اليوم
و اتأمل بالمستقبل
إنه رح يبقى أجمل
رح توصل لو طال الدرب
و رايح برضو يهون الصعب
لا تساهم في تنكيدك
و لا تكسر ضهرك بإيدك
و سهل سهل سهلها و انسى الدنيا و إهملها”
عندما كُنت أنظرُ إليهم ، لفتَ نَظري نظرة إمرأة تَملأُها الحَسرةُ ممزوجةً بالتَمني ، تنظرُ لهؤلاءِ الأطفالِ وتقولُ لأُختها ” كنتُ أتمنى أنْ يكونَ طفلٌ لي منْ بينِ هؤلاءِ الأطفال ، أو أنْ يكونَ لي طفلٌ بأعمارهِم ، لا تعلمينَ ما هُو مقدارُ الحزنِ والحسرةِ التي في قَلبي ، أشعرُ أنْ هُناك نارًا تأكلُ قَلبي ولا أَعلمُ ماذا أفْعَل” وأخَذتْ تَبكي بِحُرقة .
و على الفَورِ كانتْ أُختُها مُواسيةً لَها قَائِلة ” أتعْلمينَ قِصة سَيدُنا مُوسى مَع الخَضر، ينّزِلان منَ السَفِينةِ فَيمشِيان في الطَريق؛ فإذا بِهما يلتَقِيان بِغُلام، ليُبادِر إليهِ العبدُ الصَالح فَيقتلهُ دُون سببٍ ظَاهر، ولا عَجب أنْ يغضبَ مُوسى منْ قَتل غُلامٍ بريء لمْ يفْعل ما يُوجب قَتلَه، لكنّ العَجِيب أنَّ أيّا من أولِياء المَقتولِ لم يُطالب بدمِ الفتى، ومرّ الأمرُ كَأنهُ لم يكن، ولم يتَغير شيءٌ سِوى ازدِيادِ دَهشةِ مُوسى واقتِرابِ نفاذِ فُرصِ بقائهِ مَع الخِضر.
هذهِ القصةُ جَعلتني أُفكرُ بِالبحثِ عن سَببِ قَتل الغُلام إلى أنْ وجَدتُ ما قالهُ القُرطبي في الجامعِ لأحكَامِ القُرآن: ويُستفادُ منْ هذهِ الآيةِ تَهوين المَصَائب بِفقدِ الأولاد وإنْ كانُوا قِطعاً منَ الأكبَاد، ومَنْ سلّم لِلقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قالَ قُتادة : لقد فرح به أبواه حين ولد وحَزِنا عَليه حين قُتل، ولو بقي كان فِيه هلاكهما، فالواجبُ على كلِ امرئ الرضا بقضاءِ الله تعالى، فإنّ قضاء الله للمؤمنِ فيما يكرهُ خيرٌ له من قضائهِ لهُ فيما يُحب. اهـ
أتعرفينَ ماذا يقولُ إبراهيم الفقي” أحياناً نحاولُ فتحَ الباب، فنفشلُ فندفعهُ بقوةٍ، فنتألمُ ثُم نكتشفُ أنهُ يُفتح في الإتجاهِ الآخرِ فنَضحكُ، كذلكَ هي المَشاكل تُحلُ بالعقلِ لا بالقوة”.
لا تقلقي سَنتوكلُ على اللهِ أولاً ونأخذُ بالأسّباب ، سنذهبُ إلى هذا الطَبيبِ وتلكَ الطَبيبة ، سنجربُ هذا الدَواء إلى أنْ تَسمَعي كَلمةَ ” ماما ” بِإذنِ الله ، لنْ نهربَ منَ المَشاكلِ سنُواجِهها ونتَصدى لها ، نظرتْ إليها أُختها وقالتْ على رَأي نزار قباني :” لو كانتْ المَشاكلُ تُحل بالهروبِ ، لكانتّ الكرةُ الأرضيةُ كوكبًا مهجورًا” ، واحتضنتْ الأُختُ أُختها وكأنّها تُريد أنْ تُخبأها عنْ جميعِ الهُموم والأحزان ثمَ قالت ” دوامُ الحالِ منَ المُحال”.
وإذ كلٌ منَّا غارقٌ في همومهِ وأحزانهِ ومَشاكلهِ صغيرةً كانتْ أم كبيرة يأتي شخصٌ يصرخُ بأعلى صوت ، ومنْ شِدة عُلوِ صوتهِ جعلَ الجميعَ ينتبهُ إليه وأخذَ يقول ”
“الأشخاصُ الفَعِالين ليسوا ميَالينَ للمشاكل، بل ميالينَ لاقتناصِ الفُرص، وتدّمير المَشاكل”.
هكذا يقولُ أنتوني روبنز.