عْشْ تَجْرِبَتِي… ثَمَّ تُفَلْسَفُ
الْكَاتِبَةُ : هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ
قَدِيمًا كَانُوا يَقُولُونَ إِقْرَأُوا التَّارِيخَ ، مَاذَا حَصَلَ ؟! مَاذَا جَرَى فِيهِ ؟! حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَرَى حَرَكَةَ التَّارِيخِ وَأَحْدَاثَهُ وَنَقْرَأَهَا عَبْرَ لَحَظَاتِهَا الزَّمَانِيَّةِ وَ الْمَكَانِيَّةِ ، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ ، أَنَا الْآنَ أَكْتُبُ هَذَا الْمَقَالَ وَسَأُرْسِلُهُ إِلَى هَيْئَةِ التَّحْرِيرِ، وَبِمُجَرَّدِ أَنْ أُنْهِيَهُ يَدْخُلُ فِي الْمَاضِي الَّذِي دَخَلَ التَّارِيخَ.
أَنْتُمْ الْآنَ تَقْرَؤُونَ التَّارِيخَ هَهْهُهُهْهْهُهَهْهُ…
يَقُولُ ابْنُ خَلْدُونَ عَنْ التَّارِيخِ : إِنَّ التَّارِيخَ فِي ظَاهِرِهِ لَا يَزِيدُ عَنْ الْإِخْبَارِ، وَ لَكِنْ فِي بَاطِنِهِ نَظَرٌ وَ تَحْقِيقٌ.
وَانَا كَإِنْسَانٍ أَحَبَّ جِدًّا أَنْ أَقْرَأَ أَوْ أَسْمَعَ أَوْ حَتَّى أُشَاهِدَ أَفْلَامَ ، قِصَصٍ ، مُسَلْسَلَاتٍ تَارِيخِيَّةً ، لِأَنَّ التَّارِيخَ يَتَحَدَّثُ عَنْ الْعُمْقِ الْإِسْتِرَاتِيجِيِّ لِمَنْ يَبْتَغِي صِنَاعَةَ الْمَجْدِ فِي الْحَاضِرِ وَ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَنَا أَتَّفِقُ مَعَهُ وَبِشِدَّةٍ.
فَقَرَّرْتُ أَنْ أُشَاهِدَ مُسَلْسَلَ الزَّيرِ سَالِمٍ ، مُسَلْسَلٌ سُورِيٌّ تَارِيخِيٌّ يُجَسِّدُ شَخْصِيَّةَ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الَّذِي تَدُورُ قِصَّتُهُ عَنْ فَارِسٍ وَشَاعِرٍ يَنْتَمِي إِلَى حِقْبَةِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، وَأَحْدَاثِ حَرْبِ الْبُسُوسِ… إِلَخْ .
وَكُنْتُ فِي الْأَحْدَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمُسَلْسَلِ وَلَكِنْ اسْتَوْقَفَنِي مَشْهَدٌ مِنْ الْمَشَاهِدِ :
عِنْدَمَا قُتِلَ جِسَاسُ بْنُ مُرَّةَ كُلَيْبَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمْ يَرَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ أَنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ الثَّأْرَ ، وَقَالَ قَوْلَتُهُ الشَّهِيرَةُ الَّتِي صَارَتْ مَثَلًا :
الدِّيَةِ عِنْدَ الْكِرَامِ الِاعْتِذَارُ .
وَعِنْدَمَا قُتَلَ الزَّيْرُ سَالِمٌ ابْنَهُ جُبَيْرًاً.
قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ وَالدَّمُ يَغْلِي فِي عُرُوقِهِ :
لَأَقْتُلَنَّ بِهِ عَدَدَ الْحَصَى وَالنُّجُومِ وَالرِّمَالِ .
وَشَنَّ 09 عَلَى تَغْلِبَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُفْنِيَهُمْ .
اسْتَوْقَفَنِي مَشْهَدٌ لِبُرْهَةٍ مِنْ الزَّمَنِ وَقُلْتُ لِنَفْسِي :
مَنْ لَمْ يَخْتَبِرْ الْأَلَمَ يَسْخَرُ مِنْ جِرَاحِ الْآخَرِينَ .
هَا هُوَ الْآنَ حَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ ، يُوضَعُ فِي نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ الزَّيْرُ سَالِمٌ قَبْلَ سَنِيَيْنِ، الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ هُوَ الَّذِي قَالَ :” الدِّيَةُ عِنْدَ الْكِرَامِ الِاعْتِذَارُ” عِنْدَمَا كَانَ الْمَوْضُوعُ لَا يَمَسُّهُ إِطْلَاقًا، وَعِنْدَمَا قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُشْعِرَهُ بِنَفْسِ الْمَوْضُوعِ، كَانَ رَدُّهُ مُخْتَلِفًا تَمَامًا :
” لَأَقْتُلَنَّ بِهِ عَدَدَ الْحَصَى وَالنُّجُومِ وَالرِّمَالِ “.
وَ كَأَنَّنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كُلٌّ مِنَّا يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ حَوْلَ طَاوِلَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ ، وَكُلٌّ مِنَّا بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ الزَّمَنِ سَيُوضَعُ فِي مَكَانِ الْآخَرِ، وَنَرَى نَرْدَةَ فِعْلَ الْآخَرِ، أَوْ بِالْأَحْرَى سَنَرَى هَلْ رِدَّةُ فِعْلِنَا عَلَى الْآخَرِينَ هِيَ ذَاتُهَا أَمْ مَاذَا ؟!
مِنَ السَّهْلِ جِدًّا أَنْ تَجْلِسَ وَتُشَاهِدَ الْمُشْكِلَةُ مِنْ بَعِيدٍ وَتَبْدَأَ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ .
كَمُشَاهِدٌ يُتَابِعُ مُبَارَاةَ فَرِيقِهِ بِكُلِّ حَمَاسٍ مَمْزُوجٌ بِالْحُبِّ وَإِذَا لَاعَبَهُ الْمُفَضَّلِ يَهْدِرُ رَكْلَةً كَادَتْ أَنْ تَكُونَ هَدَفَ .
يُطْلَقُ هَذَا الْمُشَاهَدُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ، لِمَاذَا لَمْ تَقُمْ بِكَذَا؟! لَوْ أَنَّكَ قُمْتَ بِفِعْلِ كَذَا ؟! كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ كَذَا لَا هَكَذَا ؟!
وَهُوَ لَمْ يُقَدِّرْ أَنَّ هَذَا اللَّاعِبَ تَحْتَ ضَغْطٍ كَبِيرٍ ، بِسَبَبِهِ وَبِسَبَبِ الْمُدَرِّبِ وَبِسَبَبِ الْجُمْهُورِ ، لَمْ يُقْدِرْ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ صَعْبَةً عَلَيْهِ جِدًّا ، هُوَ يَعْتَقِدُ كَمُشَاهِدٍ أَنَّهَا قَرِيبُهُ لِأَنَّهُ يَنْظَرُ مِنْ بَعِيدٍ وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَدَفَ وَلَكِنَّهَا فِي الْوَاقِعِ صَعْبَةٌ ، وَصَعْبَةٌ لِلْغَايَةِ .
وَيُوجَدُ الْكَثِيرُ الْكَثِيرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ فِي حَيَاتِنَا .
عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ ، الْمُدِيرُ النَّرْجِسِيُّ ، الَّذِي يُحَاسِبُ الْمُوَظَّفِينَ بِسَبَبِ التَّأَخُّرِ عَنْ الْعَمَلِ نِصْفَ سَاعَةٍ أَوْ رُبْعَ سَاعَةٍ ، وَيَقُومُ بِالْخَصْمِ مِنْ ” الرَّاتِبِ الشَّهْرِيِّ” . أَنْتَ أَيُّهَا الْمُدِيرُ ؛ هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ وَصَلَ إِلَيْكَ هَذَا الْمُوَظَّفُ؟! كَمْ مُوَاصَلَةً رَكِبَ فِيهَا ؟! هَلْ تَعْلَمُ كَمْ كَانَتْ السَّاعَةُ عِنْدَمَا خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْعَمَلِ وَلَكِنْ لَمْ يُحَالِفْهُ الْحَظُّ ؟! الِازْدِحَامُ أَلَمْ تُشَاهِدْهُ وَأَنْتَ بِالطَّرِيقِكِ إِلَى عَمَلِكَ أَمْ مَاذَا ؟!
وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهَا اسْتَيْقَظَتْ مِنْ الْفَجْرِ ، وَالسَّبَبُ أَنَّ لَدَيْهَا أَطْفَالَ وَسَتَقُومُ بِتَجْهِيزِهِمْ وَ تَجْهِيزِ الْبَيْتِ وَتَجْهِيزِ نَفْسِهَا وَتَقُومُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مُعْتَرَكِ الْحَيَاةِ ؟!
ثُمَّ تَأْتِي أَنْتَ وَبِكُلِّ عُنْجُهِيَّةٍ وَتَبْدَأُ تَطْلَقُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِمْ ، أَنَّهُمْ أَشْخَاصٌ غَيْرُ مَسْؤُولِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ ، مَعَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَمَلَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْكَ ، وَالسَّبَبُ لِأَنَّكَ لَسْتَ مَكَانَهُمْ ، اعْتَقِدْ لَوْ أَنَّكَ كُنْتَ مَكَانَهُمْ كُنْتَ لَمْ تَأْتِيِ إِلَى الْعَمَلِ مُطْلَقًا..
لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَعَارِكُهُ الَّتِي يَخُوضُهَا فِي الْحَيَاةِ فِي كُلِّ بَعْدٍ وَجَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِهِ ، مَهْمَا كَانَتْ حَيَاتُكَ تُشْبِهُ الْآخَرَ ،وَمَهْمَا أَظْهَرْتُ لَكَ مِنْهَا..
لَا يَجِبُ أَنْ نَنْسَى أَنَّهُ مَهْمَا بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَّا مِنْ الْعَدْلِ فِي إِطْلَاقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْآخَرِينَ، سَنَظَلُّ غَيْرَ عَادِلِينَ..
فَنَوْعُ الْمِعْيَارِ وَالْمِيزَانِ وَمَاهِيَّتُهُ لِحُكْمِنَا سَيَظَلُّ مُخْتَلِفًا مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ .
وَدَرَجَةِ وَشِدَّةِ الْمُعَانَاةِ، وَالْأَلَمِ، وَالْفَرَحِ، وَالْآمَانِ، وَالسَّعَادَةِ وَكُلِّ الْمَشَاعِرِ..
مِعْيَارُهَا الْأَدَقُّ دَائِمًا سَيَكُونُ شَخْصِيٌّ، أَيْ لَا يَصِحُّ أَنْ نُقَارِنَ نُفُوسَنَا وَمَا نَشْعُرُ بِهِ مَعَ أَحَدٍ أَبَدًا ، مَهْمَا ظَهَرَتْ مُخْتَلِفَةً