07 Oct
 النهرُ يعود إلى البحر


 النهرُ يعود إلى البحر


هبة أحمد الحجاج 


عن أبي حمزة أنس بن مالكٍ رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))؛ رواه البخاري ومسلم. 


في أول أيام الربيع، نظرتُ من نافذتي وقلتُ في نفسي “طوبى لربيعِ الأرضِ حين يأتي إلينا في كل مرةٍ ليزرع الحياة في جنبات الروح والطبيعة، والمجد لشمسه التي لا تقسو، ولنسمات هوائه العليلة، ولوروده المتفتحة وعطره الذي لا ينضب”.

فقررتُ أن أستمتع بهذه الأجواء الجميلة وأمنح نفسي قسطًا من الراحة وأن لا أكتب ولا حتى أتكلم ؛فقط استمتع وأُمتع ناظريّ بهذه المناظر الجميلة ، وبالفعل ذهبتُ إلى الحديقة وأخذتُ أمتع ناظري بهذه المناظر الخلابة التي تُعطي للنفس البهجة والطمأنينة ، وإذ أرى طفلةً صغيرةً تجلسُ بجواري ، وقالت لي : ألستِ أنتِ جارتُنا الكاتبة ؟! أقصد تكتبُ القصص و الروايات .

ابتسمتُ لها وقلت ” رُبما ! كهذا يقولون” .

قالت : حسناً، وأنا أريد أن أقول لكِ هذه القصة.

قلت لها : على الرحبِ والسعة تفضلي أيتها الكاتبة الصغيرة .

قالت : في يومٍ ما كانت أمي في المطبخ تُعد لنا الفطائر ، وكانت رائحتها شهية للغاية ، فقررتُ أن أخذ عددًا من الفطائر حتى تتذوقها صديقتي ولكنني أخذتها خفيةً عن أمي ، فذهبت إلى صديقتي وأعطيتها عددًا من الفطائر على الفور كانت ساخنةً للغاية حتى أن صديقتي ، أعتقدت أنني أرقص بشكلٍ هستيري، لم تكن تعلم أن الفطائر كانت سخنةً للغاية ، فتذوقتها وأصبحنا نضحك سوياً على سرقتنا للفطائر ورقصي الهستري بسبب شدة سخونة الفطائر وطعمها الشهي .

نظرتُ إلى هذه الطفلة وقلتُ في نفسي ” نادرون هم أولئك الذين يكون العطاء أحد متعهم الخاصة”.

وأكملت حديثها وقالت : و عندما أعجبت بطعم الفطائر ، أخذت عدد من القطع إلى أختها لأنها تحب الفطائر مثلنا تماماً هههههه، هل تعلمين أن أختها ، عاشت تجربة حبٍ فاشلة ، كانت تحب وتثق بشخص ولكن هذا الشخص لم يكن أهلًا للثقة ، هل تعلمي جعلها تبكي طوال الليل ، وتستيقظ صباحاً تتذكر أقواله وأفعاله المزيفة هكذا كانت تقول لي صديقتي ، ولكن انتبهي أيتها الكاتبة هذا لم يمنعها أن تفرح من كل قلبها وتشارك فرحتها لصديقتها المقربة التي تزوجت عن حب ، بل على العكس تماماً تمنت لها الخير وقالت لها : سعادتك من سعادتي فإن كنتِ بخير فأنا بخير لا تقلقي ، لا أعلم لماذا وهي تروي لي قصة هذه الفتاة تذكرت أن “السر في العطاء لا يكمن في مجرد العطاء فحسب، بل في إحساسك بأنك تتحول إلى شخص أفضل”. ثم نظرت وقالت لي: هل أنت معي، قلت لها : بالطبع ، أكملي أكملي أنا أستمع إليكِ ، تابعت كلامها وقالت : فعندما تناولت أخت صديقتي هذه الفطائر تذكرت على الفور صديقتها التي أصبحت عروس وهي الآن في شهر العسل ، اتصلت بصديقتها وأخبرتها عن الفطائر التي كانتا تتناولانها سوياً في مطعمهما المفضل وكم أنهم يشتاقون لهذه الأيام ، ثم سكتت ، نظرتُ إليها وقلت ” ما بك ِ هل تشعرين بالحزن؟” ، نظرت لي وقالت : نعم ، أنا حزينة لأن هذه العروس فقدت أمها في حادث سير والفطائر ذكرتها بأمها ، لأنه على ما أعتقد أنها كانت تقوم بإعداد فطائر لذيذة ثم ضحكتُ وقلت لها : أمرك عجيب أيتها الصغيرة ، لماذا تضحكين؟ ابتسمت لي بابتسامة خجولة وقالت : لأنها اتصلت بخالتها التي كانت في نفس السيارة التي حصل فيها الحادث والتي أدت إلى وفاةِ أمها وحمدت الله أنها لم تفقد خالتها أيضاً وأن أولادها لم يشعروا بألم الفقد ، سرحتُ في نفسي قليلاً وقلتُ لها: طبقتِ هذه المقولة “نحن نعطي لنحيا، لأن الإمتناع عن العطاء، سبيل الفناء”

تابعت هذه الطفلة متسائلة قائلة : ألا تريدين أن أقول لكِ لماذا ضحكت؟ قلت لها : نعم بكل تأكيد ، ما سبب ضحكتك الجميلة؟ قالت : لأنها اتصلت بخالتها وأرادت منها أن تصنع الفطائر التي كانت تقوم بإعدادها أمها لها لأنها قد تكون قريبة من مذاقها ، فرحت بالطبع خالتها وقالت لها” من عينيّ هاتيّن” ، وقدمت لها مشاعر الأمومة التي كانت قد فقدتها وقد تكون عوضتها ولو جزء بسيط ، أقفلت خالتها الهاتف ودمعتها تعلو خدها ، والسبب ذكرياتها المؤلمة بفقد أختها وابنها الخريج الذي كان يعشق الفطائر ، فقررت أن تصنع الفطائر وتقدمها لصديقه الذي يصادف اليوم فرحة تخرجه، وتذهب وتشاركهم فرحتهم وكأن ابنها الخريج ما زالَ حياً ، بالفعل قامت بمشاركتهم بكل مظاهر السعادة والفرح وتمنت له العمر المديد بالصحه والعافية ، فقلتُ في نفسي ” ليس السخاء بأن تعطي ما أنا بحاجة إليه اكثر منك السخاء بأن تعطيني ما تحتاج إليه أكثر مني” .

أكملت الطفلة قائلةً بابتسامة خجولة ” أتعلمي من هو هذا الشاب الخريج ، إنه أخي ، نظرت لها مستغربةً وقلت لها ” أخوكِ!! قالت نعم ، فنظرتْ نظرة يعلوها الحزن وقالت :أخي أشعر بأن لديه هموم كثيرة ولا يتكلم، فهو خريج ولا يجد عمل يبحث هنا وهناك لكن دون لا جدوى، ذات مرة سمعت أمي تقول ” يجب أن يجد عملاً حتى يكون له مستقبل” لم أفهم ماذا يعني هذا لكن يجب أن يكون له عمل وسيارة وبيت هكذا تقول أمي.

أخبرك سراً؟ أخي عكس صديقه تماماً ، صديقه يمتلك العمل والسيارة والبيت ولا أشعر أن أخي يحسده أو حتى يغار منه بل على العكس، يدعو له بالبركة والخير ودائماً أسمعه يردد “يجب على المرء أن يكون فقيراً لمعرفة رفاهية العطاء “.

ولكن صديق أخي لا يمتلك الأسرة كم هو أمرٌ محزن فهو يعتبرنا كأسرته تماماً حيث أننا دائماً عندما تقوم أمي بإعداد الفطائر تقوم بدعوته.

سكتت برهة من الزمن ثم نظرت لي بابتسامة مشاغبة وقالت: وهو يأتي إلينا بالبقلاوة كم هو جميل ، قلت لها “مثلما يعود النهر إلى البحر، هكذا يعود عطاء الإنسان إليه” .

نظرت إلي وقالت : هل تحبي أن تشاهدي صورة عائلتي؟ قلت لها : من بعد إذنك ، قالت : ها نحن ، وهذا هو صديق أخي تشعرين وكأننا عائلته ، قلت لها: لا بالعكس أنتم عائلته هكذا توضح وتشرح الصورة .

ثم وقفت وقالت لي مودعة ” وهكذا تنتهي قصتي ، قد أستنتج من قصتي كما علمتني أمي : العطاء بدون انتظار أي مكافأة ، أو أي شكر، له ميزة خاصة، وانتي ؟!”

قلت لها : نحن في الحياة نسمو بقدر ما نعطي لا بقدر ما نأخذ.

وأنتم لا تسيروا على نهج هذه المقولة “خيراً تعمل شراً تلقى”

ولكن سيروا على نهج “قُل خيراً تعمل ستراً تلقى، أجراً تلقى، فرجاً تلقى “.

قد ينسى الناس ولكن الله لا ينسى.



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.