الناسُ #معادنٌ ولكن … مَتى تُعرف ؟!
هبة أحمد الحجاج
منْ مِنا لم يَسأل نفسَه ويَقول : هلْ أنا مَع الشَخص المُناسب؟ منْ مِنا لم يُصدم بِردة فِعلٍ منْ القَريب قَبل الغَريب ، وأقصدُ هُنا في المَعنيين قدْ يكونُ القريبُ شعوريًا وليسَ صِلة قرابةٍ فحَسب ،والعَكسُ صَحيح أيّضاً .
منْ مِنا لَم يَقف قَليلاً على كلمةٍ لمْ يتَوقع أنْ يَسمعها منْ هَذا الشَخصِ تَحديداً ،ليسَ لأنهُ عالمٌ أو فليسوفٌ أو أي شخص كَان؛ ولَكن قُلتَ في نَفسك : تَوقعتُ الكَلامَ منْ شخصٍ آخَر ولكنْ ليسَ أنتَ!
منْ مِنا لمْ يَطلب العَونَ أو المُساعدةَ سَوءاً ماديةً كانتْ أم مَعنويةً ، أيًا كانتْ تلكَ المُساعدة ولكنهُ كَسر نَفسهُ وطلبَ وعِندمَا طلَب ؛تَمنى أنْه لَو ابْتَلعتهُ الأرضُ قبلَ أنْ يَطلب، والسَبب ردةُ فعلِ الآخَر .
بالتَأكيدِ الأغلبُ مرَ بتِلك الأحداثِ أو المَواقف وإذا لمْ يَكن أغلَبها فبالتَأكيدِ بَعضُها .
لا عَليك هَون عَليكَ الأمْر وتَذكر دَائماً هَذهِ المَقُولة “لا يُمكنُك أنْ تَرى النُجوم إلا فِي الظَلام، كَذلك هُم بعضُ الأشخَاص فِي حَياتِنا لا يَظهر مَعدنهم إلا وقتَ الشِدة، وفي الشَدائِد يتَساقطُ الكَثير”.
حَسناً سَأقومُ بتَبسيطِ الأمُورِ إليكَ بِشكلٍ أفْضلٍ وأَرْوي لكَ قصةً حَدثت مَعي .
إليكَ القِصة :
فِي يومٍ مَا صادفتُ أخَوينِ تَوأَمين ، كَانا يَتشابهانِ في الشَكلِ بدرجةٍ كَبيرةٍ جداً، نُسخةٌ طِبق الأَصلِ عنْ بَعضِهما، ولكنّ الدُنيا فَرّقتهُما فِي الأخْلاقِ والمَواقفِ والأَحداثِ والأقْدار.
أمْعنتُ النظرَ إليهِما وانتَابني الفُضول كَي أسْألهُما سُؤالنا المُعتاد: هَل تَشعُران بِبعضكُما البَعض؟ وأكملتُ سُؤالي : أقصدُ عِندما تَشعرُ بالضِيق أيشعرُ أخَاك التَوأم بِذلك؟ بِما أنكُما تَوأمان فبِالتأكيدِ تَتشارَكان حَتى بالشُعور وهَكذا .
نظرَ إلي أحدُهما وقالَ والابتِسامةُ تَعلو على وجهِه:ما رأيُك أنْ تكتشفَ أنتَ بنَفسك ؟ اسْتغربتُ بعضَ الشَيءِ منْ إجَابتِه وقُلتُ في نَفسِي “لعلهُ يَستهزئُ بِي” ، نظرَ إليَ وقَال : هلْ أنتَ مُستعد ؟ قلتُ لهُ : كَيف ؟ قالَ ضَاحكاً : سَنُطلعك عَلى بَعضِ تَفاصيلَ حَياتنا وأنتَ تكتشفُ بِنفسك ، ثُم أمّعنَ النظرَ إليّ وقالَ : أعتقدُ أنكَ كاتبٌ أيضاً، كَم أنّها فُرصةٌ رَائعةٌ ، ذَهبتُ وجلستُ في المُنتصفِ بَينهُما .
وابْتدأتِ القِصة: فَقامَا بالتَعريفِ عنْ أنفُسهما بِالأسماء ،وكَان واحدٌ من بينهِما أكبرُ منَ الآخرِ بِدقيقةٍ .
فقالَ الذي كانَ يجلسُ على الجانبِ الأيمَن : أريدُ منكَ أنْ تفتحَ يَداك ، فقمتُ بفتحِ يدَاي، ثمَ نظرتُ لهُ نَظرةَ اسْتغراب ، ردَ على الفورِ وقَال : لمْ يخلقْ اللهُ الأصَابع العَشر مُتشابهة، كَهذهِ أخلاقُنا ولكنْ بالنسبةِ لِأشّكالِنا “فُتحَ البابُ لانعكاسهِ ظناً مِنهُ أنهُ أنَا !” ثُم أكّملَ قَائلاً: سمعتُ أنكَ تتحدثُ عنْ مَعادنِ الناسِ، سأقومُ بمشاركتِكَ المَوضوع ” نحنُ لم نَخسرهم ولكنَ المَواقِف غَربلتهم ” .
إليكَ القِصة:
عِندَما تَلجأ إليكَ إمرَأة مُتْ منْ أَجلِها ، فالمرأةُ لا تَلجأُ لِرجلٍ إلا وكانَ عِندها أعظمُ الرِجال. “نزار قباني”.
زَوجتي مَرضت وأَصابَها مَرضٌ خَطير أَدى إلى ضَعفِ جِسمِها بِشكلٍ مَلحُوظ ، ولنْ أُخفي عَليك أنَني أحبَبتُها من أجلِ شَخصيتِها وأُسلوبِها الرَائِع وعَقلِها الحَكيم ، ولكنْ فِي نَفسِ الوَقتِ كانتْ جَميلةً وأحببتُ شَكلَها أيضًا ، ولكنْ عِندما مَرضتْ ذهبَ جَمالُها في مَهبِ الرِيح ولمْ يَتبقى سِوى حُبِي لهَا، وهُنا يظهرُ مَدى حُبي لهَا، وقفتُ إلى جَانبِها وأمْسكتُ بِقلبها قبلَ يدِها وقلتُ لَها : سوفَ ننتصرُ عَلى هَذا المَرضِ اللّعين ، تَخطَينا الأصّعبَ والأَقوى منْ ذَلك . كانتْ تبتسمُ وتقولُ لِي : لا تَخفْ لنْ أترُككَ وحِيداً في هَذهِ الدُنيا الغَريبة ، وللهِ الحَمد بعدَ ثلاثةِ سَنواتٍ انْتَصرنا على المَرضِ ،وأَكمَلنا حَياتنا بشكلٍ أَجّمل منْ ذِي قَبل حَتى أنّنا حَمدنا اللهَ أنّنا أُصِبنا بِهذا المَرض، لأَنّنا اقْتَربنا منْ بَعض أكثَر وأكْثر .
وإذ أخَاهُ يُقاطِعه بِكل عصبيةٍ وانفعالٍ وأخذَ يَصرخُ ” أمّا عَني أنَا لمْ أشعرْ بِالمحبةِ نَحو زَوجتِي ،لمْ أَشّعرْ بأي شَيء ، نَعم عِندما مَرضت تَركتها وسَافرت ، أنَا إنسانٌ لا أُحبُ هذهِ الأجّواء ، لكِنني أخَذتُها إلى الطَبيب وقَام بِمُعالجتِها . جَاوبني لِماذا أبقَى؟ هلْ أنا دَواءٌ لَها؟ هذهِ الأُمور التِي يتَكلمُ عَنها أخِي ليسَتْ ضَرُورية،المُهم أنْ الله يكتـُبَ لهَا الشِفاء، وتأَخُذ عٓلاجها وكَفى، ومَع ذَلك لَم تُقدر، وأنَا مُتأكد لو مَرضتُ لنْ تَقومَ بِأخذي إلى الطَبيب، وأصّبحَ يضحكُ بصوتٍ عَالٍ ويَقول: أتَعلم ماذَا قالَ أبَقراط ؟ المَرأةُ هِي المَرض.
قلتُ فٓي نَفسي : يُعرفُ الزَوجُ عِند مَرضِ زَوجَته وكِلاكُما تمَ مَعرفتُكما لَديّهن.
قاطَعهُ أخاهُ وقالَ : في وقتِ الشِدة فَقط تَعرف منْ هُم أحبَابَك ، و منْ هُم حُثالة اختِيارتِك. “أنيس منصور”.
أمّا عَني فَقد رأيتُ زَوجتي الحَبِيبة كيفَ تَلقتْ خبرَ إفلَاسِ شَركتنا، لا أزالُ أذكرُ ابتِسامتِها علَى وجهِهَا وهِي تَقول ” لقدْ رأيتُ شكلكَ ومَظهركَ عِندَما كُنتَ غَني،أمّا وأنتَ فَقير فأنَا مُتحمسةٌ جِداً لرُؤيتكَ بِهذَا الشَكل” . ضَحكتُ وقلتُ :ماذَا عَنكِ؟أصّبحتْ تضحكُ بِشكلٍ هِستِيري وقَالت ” أمّا عَني سَأخلعُ الكَعب العَالي وألبِسُ البَوت الرِياضي ،فأمَامُنا أيّامٌ تستوجبُ الركضَ فِيها لَا أنْ نَتمختر” ومَشتْ بِكلِ اعتِزازٍ وفَخر وقالتْ ” سَترى كَيف أنّ عَملي واجتِهادي وشَهادتي الجَامعية سَتُرجعك أغنَى الأغنِياء” ثُم قامتْ بِمُصافحتني وقَالت : أهلاً بِك يا شَرِيك العَمل،سَنتعاهدُ أنْ نجعلَ الحياةَ أجمَل.
أَتعلَم جَعلتنِي أَنسى أَنني أَفلسْت، جَعلتنِي أَنسى المُصيبَة التِي وقَعت عَلى رَأسِي، جَعلتنِي أَرى كَمْ أنَا إنْسَان مُتشائم ! كَيف تَلقت هِي الخَبر بِرحابةٍ وسِعةِ صَدر ، وكَيف أنَا تَلقيتهُ بالتَذمرِ والحُزنِ الشَديد، ولنْ أنسَى مَقُولتها لي فِي ذلكَ اليَوم ” مُعاودة الكفاحِ بعدَ الفشلِ يُشير إلى معدنِ الرِجال”. – وليم شكسبير.
وأنتَ معدنُكَ منَ ألمَاس .
قاطعهُ أخاهُ مرةً أُخرى ولكنْ بصوتِ ضِحكتهِ مُقهقهًاوقالَ : أنَا حَصل مَعي كَهكذا ولكنْ بشكلٍ مَعكوس ، نَظرتُ لهُ عَلى الفَورٍ مُتسائلاً وقلتُ له : كَيف ؟!
قالَ بصوتٍ تَملأُه الحَسرةُ والنَدم ، أما بالنسبةِ لزَوجتي السَابقة تَقبلت إفلاسِي عَلى الفَور ولكنْ كَيف؟! تَخلت عَني ووبخَتني ووضَعت كُل اللّوم عَلي ،واتهَمتني بالإهمالِ والفشلِ، ووصفَتني بأنَني رجلٌ لا يُعتمدُ عَليه، حتَى أنَها قالتْ لِي أنَها ندمتْ عَلى زواجِها مِني، وما هِي إلا سُويعات قَليلة، وغَادرتْ المَنزل ،وقالتْ لي جُملةً قبلَ أنْ تذهبَ أثّرتْ في نفسِي كَثيراً ” الذهبُ يُمتحن بالنارِ و الرجالِ بالتجارُب “.
سينيكا.
وفجأةً سادَ الصمتُ وأصبحتُ أتذكرُ المقولةَ التِي تُناسبُ هَذا المَوقف، نعَم تَذكرت ” تُعرفُ الزوجةُ عندَ فقرِ زَوجِها “
ثُم نظرَ إلَي وأكملَ قائلاً ” نَعم صَحيح تذكرتُ .. أنَا عِندما احتَاجني والِدي في كِبره بكلِ أسفٍ لمْ يَجدني، فقدْ كُنت مَشغولاً في حَياتي الخاصةِ ومَشاريعي، ومَصاعبِ الحياةِ ومَتاعها، والآن أنتَ تقولُ في نَفسكَ “كَم أنتَ ابنٌ عَاق” لا عليكَ أعلمُ ذلكَ حتَى لَو لمْ تَقلْ ذلك ، قدْ تقولُ بينكَ وبينَ نَفسك ” يَعتنى الوالدُ بعشرةِ أطّفال ولكنْ يعجزُ الأولادُ العشرةُ أنْ يعتَنوا بِه”. بلْ أيضاً سأزيدُك منَ الشعرِ بيتاً “يُعرف الأبناءُ عِند شَيخوخةِ والِديهم ” أتعرفُ منْ الذي عُرف؟ هذا الرَجل الذي يَجلسُ بِجانبك الأيّمن ، التفتُ إليهِ ، كان يبتسمُ ابتسامةً دافئةً ويَقول ” أبِي الذِي كانَ يُمسكُ بيدي عَلى دُروب الحياةِ ،كُنت أجدُه مَعي في ضِيقي،أجدهُ حَولي فِي فَرحي،أجدهُ يُوافقني في الرَأي. حَتى عِندما كنتُ على خَطأ كانَ مُعلمي وحَبيبي،كانَ ينصَحني إذا أَخطأتُ، ويأخذُ بِيدي إذا تعثرتُ، فَيسقيني إذا ضَمئت،ويمسحُ على رأسِي إذا أحسَنت.
يا ليتهُ كانَ حياً كنتُ بقيتُ خادماً تحتَ قدَميه، كانتْ السنينُ التِي عاشَها مَعنا منْ أجملِ سِنين العُمر، كُنا نعيشُ معهُ جو منَ الراحةِ والطُمأنينة والسكينةِ والأَمان، كانَ هُو بركتُنا في هذهِ الحياةِ” .
قاطعتهُ قائلاً ” عذراً على المُقاطعة، كأنكَ تقصدُ أنهُ توفاهُ الله”؟
ردَ بصوتٍ تملأهُ الحسرةُ ممزوجًا بالحزنِ ” للأسفِ، رحمةُ اللهِ عَليه” .
وها نحنُ اليومَ نجتمعُ للمرةِ المليارِ حتى نتكلمَ بالميراثِ .
قلتُ لهُ مستغرباً :المِليار !! قالَ لي مُبتسمًا ابتسامةً ممزوجةً بالسخريةِ ” تُعرف الأخوةُ عندَ توزيعِ المِيراث” ،
والآنَ أيُها الكاتبُ ما رأيكَ هلْ نتشابهُ في المَشاعر ؟!
أم لكَ قولٌ آخر ؟
نظرتُ لهُ بنظرةِ تأسفٍ واعتذارٍ وقلتُ له “لا تنخدعْ باللباسِ أو المظهرِ ، فمنْ أرادَ البحثَ عنْ اللؤلؤِ فليغصْ إلى الأعماقِ”.
وذهبتْ .
أيُها الناسُ إنْ قطعةَ الذّهبِ قد تسقطُ في الوحلِ فيُصيبها الأذى ولكِنها تَبقى ذهباً، والصّفيحُ ليسَ كالذهبِ، والشّر ليسَ كالخير، والليلُ الأسودُ البهيمُ ليسَ كالضُحى المُشرق المُضيء.معادنُ الناسِ تظهرُ وقتَ الشِده .
دائماً ما كانتْ الشدائدُ تقومُ بالكشفِ عنْ معادنِ الناسِ وتُظهر حقيقتها ،فمنَ المُمكن أنْ تتعرفَ على شخصٍ لمدةٍ كبيرةٍ ولا تستطيعَ معرفةَ صفاتهِ الحقيقةِ في تلكَ الفترةِ، ولكنْ إذَا حدثتْ هذهِ الشدائدُ ظهرتْ معادنُ الناسِ .